الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (5): {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5)}{النار} بدل اشتمال من الأخدود والرابط مقدر أي فيه أو أقيم إلى مقام الضمير أو لأنه معلوم اتصاله به فلا يحتاج لرابط وكذا كل ما يظهر ارتباطه فيما قبل وجوز أبو حيان كونه بدل كل من كل على تقدير محذوف أي أخدود النار وليس بذاك وقرأ قوم النار بالرفع فقيل على معنى قتلتهم النار كما في قوله تعالى: {يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال} [النور: 36، 37] رجال على قراءة يسبح بالبناء للمفعول وقوله:ويكون أصحاب الأخدود إذ ذاك المؤمنين وليس المراد بالقتل اللعن وجوز أن يراد بهم الكفرة والقتل على حقيقته بناء على ما قال الربيع بن أنس والكلبي وأبو العالية وأبو إسحق من الله تعالى بعث على المؤمنين ريحًا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذي كانوا على حافتي الأخدود وأنت تعلم أن قول هؤلاء مخالف لقول الجمهور ولما دلت عليه القصص التي ذكروها فلا ينبغي أن يعول عليه وإن حمل القتل على حقيقته غير ملائم للمقام ولعل الأولى في توجيه هذه القراءة أن النار خبر مبتدأ محذوف أي هي أو هو النار ويكون الضمير راجعًا على الأخدود وكونه النار خارج مخرج المبالغة كأنه نفس النار {ذَاتِ الوقود} وصف لها بغاية العظمة وارتفاع اللهب وكثرة ما يوجبه ووجه إفادته ذلك أنه لم يقل موقدة بل جعلت ذات وقود أي مالكته وهو كناية عن زيادته زيادة مفرطة لكثرة ما يرتفع به لهبها وهو الحطب الموقد به لأن تعريفه استغراقي وهي إذا ملكت كل موقود به عظم حريقها ولهبها وليس ذلك لأنه لا يقال ذو كذا إلا لمن كثر عنده كذا لأنه غير مسلم وذو النون يأباه وكذا ذو العرض وقرأ الحسن وأبو بجار وأبو حيوة وعيسى الوقود بضم الواو وهو مصدر بخلاف مفتوحه فإنه ما يوقد به. وقد حكى سيبويه أنه مصدر كمضمونه وقوله تعالى: .تفسير الآية رقم (6): {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6)}{إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} ظرف لقتل أي لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها في مكان قريب منها مشرفين عليها من حافات الأخدود كما في قول الأعشى:وقيل الكلام بتقدير مضاف أي على حافاتها أو نحوه والجمهور على أن المراد ذلك من غير تقدير. .تفسير الآية رقم (7): {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7)}{وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ} أي يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأن أحدًا لم يقصر فيما أمر به أو يشهدون عنده على ما حسن ما يفعلون واشتماله على الصلاح على ما قيل أو يشهد بعضهم على بعض بذلك الفعل الشنيع يوم القيامة أو يشهدون على أنفسهم بذلك يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم وقيل علي عنى مع والمعنى وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين من العذاب حضور لا يرقون لهم لغاية قسوة قلوبهم ومن زعمم أن الله تعالى نجى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود وأيًا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد بالمؤمنين والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور حرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضميرهم على ما يفعلون لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات..تفسير الآية رقم (8): {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)}{وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ} أي ما أنكروا منهم وما عابوا وفي مفردات الراغب يقال نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة وما نقموا بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم {إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد} استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله:وكون الكفرة يرون الايمان أمرًا منكرًا والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عز وجل جاريًا على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هم الايمان بالله تعالى بل نفى ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطلة فالمنكر عندهم ليس إلا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحًا عما سمعت فتأمل ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه وفي المنتخب إنما قال سبحانه إلا أن يؤمنوا لأن التعذيب إنما كان واقعًا على الايمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قال عز وجل إلا أن يدوموا على ايمانهم انتهى وكأنه حمل النقم على الانكار بالعقوبة ووصفه عز وجل بكونه عزيزًا غالبًا يخشى عقابه وحميدًا منعمًا يرجى ثوابه وتأكيد ذلك بقوله سبحانه: .تفسير الآية رقم (9): {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)}{الذى لَهُ مُلْكُ السموات والأرض} للإشعار ناط إيمانهم وقوله تعالى: {والله على كُلّ شَيْء شَهِيدٌ} وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلًا لذلك واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير..تفسير الآية رقم (10): {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)}{إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين أما أصحاب الأخدود والمطرحون فيه خاصة وأما الأعم ويدخل المذكورون دخولًا أوليًا وهو الأظهر وقيل المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} قال ابن عطية يقوى أن الآية في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتواعلى كفرهم وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من ماب وآمن وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} أي بسبب فتنهم ذلك {وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبئ عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم وقال بعض الأجلة أي فلهم عذاب جهنم بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر ولهم عذاب الحريق بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصلح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما سببين في جانب الخبر على الترتيب وقيل أي فلهم جهنم في الآخرة ولهم عذاب الحريق في الدنيا بناء على ما روى عن الربيع ومن سمعت أن النار انقلبت عليهم فأحرقتهم وقد علمت حاتله وتعقبه أبو حيان بأن ثم لم يتوبوا بأبي عنه لأن أولئك المحرقين لم ينقل لنا أن أحدًا منهم تاب بل الظاهر أنهم لم يلعنوا إلا وهم قد ماتوا على الكفر وفيه نظر وعليه إنما أخر ولهم عذاب الحريق ورعاية للفواصل أو للتميم والترديف كأنه قيل ذلك وهو العقوبة العظمى كائن لا محالة وهذا أيضًا لا يتجاوزونه وفي الكشف الوجه أن عذاب جهنم وعذاب الحريق واحد ووصف بما يدل على أنه للمعبودين جدًا عن رحمته عز وجل وعلى أنه عذاب هو محض الحريض وهو الحرق البالغ وكفى به عذابًا والظاهر أنه اعتبر الحريق مصدرًا والإضافة بيانية ولا بأس بذلك إلا أن الوحدة التي ادعاها خلاف ظاهر العطف وقال بعضهم لو جعل من عطف الخاص على العام للمبالغة فيه لأن عذاب جهنم بالزمهرير والإحراق وغيرهما كان أقرب ولعل ما ذكرناه أبعد عن القال والقيل وجملة فلهم عذاب إلخ وقعت خبرًا لأن أو الخبر الجار والمجرور وعذاب مرتفع به على الفاعلية وهو الأحسن والفاء لما في المبتدا من معنى الشرط ولا يضر نسخه بأن وإن زعمه الأخفش واستدل بالآية على بعض أجوهها على أن عذاب الكفار يضاعف بما قارنه من المعاصي..تفسير الآية رقم (11): {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)}{إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} على الإطلاق من المفتونين وغيهرم {لَهُمْ} بسبب ما ذكر من الايمان والعمل الصالح {جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} إن أريد بالجنات الأشجار فجريان الأنهار من تحتها ظاهر وإن أريد بها الأرض المشتملة عليها فالتحية باعتبار جزئها الظاهر فإن أشجارها ساترة لساحتها كما يعرب عنه اسم الجنة وفصل الجملة قيل لأنها كالتأكيد لما أشعرت به الآية قبل من اختصاص العذاب بالذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا {ذَلِكع} إشارة إلى كون ما ذكر لهم وحيازتهم إياه وقيل للجنات الموصوفة والتذكير لتأويلها بما ذكر وما فيها من معنى البعد للإيذان بعلو الدرجة وبعد المنزلة في الفضل والشرف ومحله الرفع على الابتداء خبره {ذَلِكَ الفوز الكبير} الذي يصغر عنده الفوز بالدنيا وما فيها من الرغائب والفوز النجاة من الشر والظفر بالخير فعلى الوجه الثاني في الإشارة هو مصدر أطلق على المفعول مبالغة وعلى الأول مصدر على حاله..تفسير الآية رقم (12): {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)}{إِنَّ بَطْشَ رَبّكَ لَشَدِيدٌ} استئناف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم إيذانًا بأن لكفار قومه نصيبًا موفورًا من مضمونه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام والبطش الأخذ بصولة وعنف وحيث وصف بالشدة فقد تضاعف وتفاقم وهو بطشه عز وجل بالجبابرة والظلمة وأخذه سبحانه إياهم بالعذاب والانتقام..تفسير الآية رقم (13): {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)}{إِنَّهُ هُوَ يُبدئ وَيُعِيدُ} أي أنه عز وجل هو يبدئ الخلق بالإنشاء وهو سبحانه يعيده بالحشر يوم القيامة كما قال ابن زيد والضحاك أو يبدئ كل ما يبدأ ويعيد كل ما يعاد كما قال ابن عباس من غير دخل لأحد في شيء منهما ومن كان كذلك كان بطشه في غاية الشدة أو يبدئ البطش بالكفرة في الدنيا ثم يعيده في الآخرة وعلى الوجهين الجملة في موضع التعليل لما سبق ووجهه على الثاني ظاهر وعلى الأول قد أشرنا إليه وقيل وجهه عليه إن الإعادة للمجازاة فهي متضمنة للبطش وليس بذاك وعن ابن عباس يبدئ العذاب الكفار ويعيده عليهم فتأكلهم النار حتى يصيروا فحما ثم يعيدهم عز وجل خلقًا جديدًا وفيه خفاء وإن كان أمر الجملة عليه في غاية الظهور واستعمال يبدئ مع يعيد حسن وإن لم يسمع أبدأ كما بين في محله وحكى أبو زكيد أنه قرئ يبدأ من بدأ ثلاثيًا وهو المسموع لكن القراءة بذلك شاذة..تفسير الآية رقم (14): {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)}{وَهُوَ الغفور} لمن يشاء من المؤمنين وقيل لمن تاب وآمن والتخصيص عند من يرى رأي أهل السنة إما لمناسبة مقام الإنذار أو لما في صيغة الغفور من المبالغة فأصل المغفرة لا يتوقف على التوبة وزيادتها بما لا يعلمه إلا الله تعالى للتائبين {الودود} المحب كثيرًا لمن أطاع ففعول صيغة مبالغة في الواد اسم فاعل ومحبة الله تعالى ومودته عند الخلف بانعامه سبحانه وإكرامه جل شأنه ومن هنا فسر الودود بكثير الإحسان وعن ابن عباس أي المتودد إلى عباده تعالى شأنه بالمغفرة وقيل هو فعول عنى مفعول كركوب وحلوب أي يوده ويحبه سبحانه عباده الصالحون وهو خلاف الظاهر وحكى المبرد عن القاضي اسمعيل بن إسحق أن الودود هو الذي لا ولد له وأنشد قوله:أي لا ولد لها تحن إليه وحمله مع الغفور على هذا المعنى غير مناسب كما لا يخفى.
|